عمل المصلح :
مقتضياته وتحدياته :
إن
الركيزة الأساسية في عمل المصلحين من رسل وأئمة وعلماء... تكمن في القيام بإصلاح
الأمور الفاسدة في المجتمع والتي قد يكون من شأنها عادة الإخلال بالعناوين الكبرى
التي يقوم عليها مستقبل الوجود الانساني في الكون، من عدالة وحرية ومساواة
وكرامة...
وإذا
ما تتبعنا سيرة هؤلاء المصلحين، فإننا نجد إصراراً عجيباً على التركيز على مضمون الاصلاح
ضمن عظاتهم لأقوامهم ومجتمعاتهم، وقد ذكر القرآن الكريم في غير ما مناسبة خطاباً
لهم يتضمن مضامين الاصلاح تلك إن بتعبير النصح أو الاصلاح، من ذالك قوله تعالى على لسان نبي الله نوح عليه السلام :
﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله مالا تعلمون
﴾. الاعراف. 62. وقوله عز وجل على لسان نبي الله هود عليه السلام : ﴿ أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين ﴾. الاعراف. 68.
وقوله جل من قائل على لسان نبي الله صالح عليه السلام : ﴿ لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين ﴾. الاعراف. 79.
وقوله جل جلاله على لسان نبي الله شعيب عليه السلام : ﴿ إن
أريد الا الاصلاح ما استطعت ﴾. هود. 88.
ونفس
الامر نجده في كلام الامام الحسين عليه السلام حين قال : « لم أخرج أشراً ولا بطراً... وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمتي
جدي رسول الله ».
وإذا
كان الاصلاح هو ديدن هؤلاء المصلحين، فإنه لا شك أن لهذا الاصلاح مقتضيات يجب
الاحاطة بها لكي تكون عملية الاصلاح ناجحة، من ذالك على سبيل المثال معرفة الواقع
المراد إقرار عملية الاصلاح به، وامتلاك لغة تتناسب مع الظواهر المراد إصلاحها
والاحاطة الدقيقة بهذه الظواهر، وطرح البدائل لها... غير أنه يبقى من أهم وأبرز
هذه المقتضيات، هو تلبس المصلح أولاً بما يدعوا الناس اليه، وذالك لإعطاء
المصداقية لعملية الاصلاح من جهة، ولما للسلوك الحسن من دور فاعل في تأدية الرسالة
وفي التربية.
كما
أن لعمل المصلح تحديات يجب وضعها في الحسبان، إذ أن تغيير عادة أو سلوك أو عرف
فاسد تعارف عليه الناس مدة طويلة لن يكون بالامر الهين، بل بالتأكيد انه سياخذ
وقتاً طويلاً، وستترتب عنه مقاومة شرسة، ورفضاً لعملية الاصلاح هذه... لكن يبقى
التحدي الأكبر في كل ذالك، هو ظهور طبقة محددة في المجتمع ستعمل على مقاومة مشروع
الاصلاح هذا والاطاحة به بكل ما أوتيت من قوة، لأن هذا المشروع يهدد مصالحها
بالدرجة الاولى بحكم أنها الاكثر استفادة من الوضع الفاسد، وبحكم ان الفساد المراد
اصلاحه هو سلوك موجود بأيدي الناس وليس أمراً معلقاً بالهواء، ولذالك فغضب هذه
الطبقة على المصلح، قد يطال شخص المصلح نفسه.
لذالك
فاننا سنركز في كلامنا هذا على هذين العنصرين الاساسيان : تلبس المصلح بما يدعو
اليه كمقتضى أساسي في عملية الاصلاح، وسخط الناس على المصلح كتحدي كبير يواجهه في
عمله.
إن معالجتنا
لهذين العنصرين الاساسين، ستنطلق من قول الله عز وجل : ﴿ وكان يأمر أهل بالصلاة والزكاة وكان عند ربه
مرضياً ﴾. مريم. 55. فهذه الاية الكريمة التي تتحدث عن نبي الله اسماعيل،
تقدمه كنموذج لما ينبغي أن يكون عليه المصلح، إذ أن القسم الأول منها والذي يذكره
بكونه كان يأمر أهله بالصلاة، يريد أن يعطي إشارة عامة الى أن المصلح يجب أن يتلبس
هو ومحيطه أولاً بما يدعو الناس اليه قبل أن يطالبهم بذالك، إذ أنه بهذه الكيفية
يعطي مصداقية لدعواه أمام الملأ، وينأى بكلامه عن أن يكون مجرد شعار لا غير،
خصوصاً وأن الدعوة العملية تحدث وقعها في الناس أكثر من الاستغراق في التنظير
وكثرة الكلام، أضف الى ما في التلبس بذالك من انعكاس على صاحب الدعوة نفسه، إذ أنه
من جهة يعكس إيمانه الراسخ بما يدعو اليه، ومن جهة أخرى يرسل بإشارة واضحة الى أن
الكلام دون التطبيق قد يحدث عند صاحبه انفصاماً في الشخصية، ولذا نهى القرآن
الكريم عن القول الذي لا يصدقه العمل أو التطبيق حيث قال : ﴿ يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله
أن تقولوا ما لا تفعلون ﴾. الصف. 2. 3. وعلى هذا الأساس سار كل الانبياء
والرسل، إذ نجد النبي الأكرم عليه وعلى آله الصلاة والسلام وهو يتمثل قول الله
تعالى : ﴿ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها ﴾. طه.
132. في ذاته ويربي أهله على ذالك. وهذا الكلام يسري مع كل تفاصيل المشروع
الاصلاحي، وإنما خصت الصلاة بالذكر من باب تسمية الكل بالعنوان الأبرز، وما للصلاة
كعبادة من دور بارز في التربية كذالك.
وأما
الشطر الثاني من الاية الكريمة، فهو يشير الى التحدي الأبرز الذي قد يواجه جميع
المصلحين ويضعهم أمامه، حيث أن المصلح لا محالة سيواجه سخط الطبقة المستفيدة، سواء
المطففين منهم أو السحرة أو بائعي الثماثيل... ذالك لأن الفساد كما قلنا ليس
معلقاً بالهواء، وإنما هو وضع تستفيد منه طبقة محددة، والقضاء عليه يعني القضاء
على مصالح أصحابها، وعلى هذا الأساس سوف نفهم مواجهة بعض سادة قريش للنبي الأكرم –
ممن كانوا يملكون دور الدعارة ويتاجرون في العبيد وفي التماثيل وغيرها – والتي دامت
أكثر من عشرين عاماً حتى انتهت بجماعة منهم الى نقل هذا الصراع الى دار الاسلام،
بعد أن استعملوا فيه جميع الاساليب المشروعة وغير المشروعة، بما في ذالك الشخصية
منها، كوصفه بالساحر والمسحور والكذاب والأفاك... شأنه في ذالك شأن كل الانبياء
والرسل الذين لم ينج أحد منهم من سخط هذه الطبقة.
وهنا
تكمن النكتة في قوله تعالى عن نبيه إسماعيل عليه السلام بأنه كان مرضياً عند ربه،
إذ أنه من باب تحصيل حاصل أن يكون النبي مرضياً عند ربه، وإنما الغاية هي التنصيص
على أن المصلح قد لا يكون مرضياً عند الناس لاصطدام دعواه بمصالحهم، ولذا وجب
التذكير بأن الأهم هو أن يكون مشمولا برضى الله تعالى لا رضى الناس، وهنا نستحضر
قول أمير المومنين علي عليه السلام حين يقول : « لا
يزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة ». والاشارة كذالك لكل المصلحين الى الاستعداد الى مواجهة هذا
التحدي الكبير الذي قد يحبط عزائمهم ان هم لم يستعدوا لذالك.
إن التصدي
لعملية الاصلاح، يجب أن تاخذ بعين الاعتبار كل شروطها، وخاصة التلبس بالمشروع
وتمثله في الذات، ثم الاستعداد للمواجهة بما يتطلب ذالك من حكمة وموعظة حسنة.
رئاسة المركز.
No hay comentarios:
Publicar un comentario